لعنة العصابات (1) .. هنا تفاصيل شعب تحكمه الجماعات
يمنات
ماجد زايد
تتجول كل يوم في شوارع قد سئمَت منك وسئِمت منها ، تقرأ فيها هذيان البشر من ملامحهم بينما يسيرون ، تتجول مع سجائرك بطريقة المجانين في أماكن مزدحمة ، أماكن قد صارت نتنه من شدة الفقر الجاثم على أرصفتها ، يميل بك التعب والإرهاق الى ركن يطل على شارعين عريضين ، الناس هنا يُسّمونها أرقى طرقات المدينة ، تستمع من مكانك الى صراخ عالي يأتي من قلب الجولة القريبة ، عبر مكبرات الصوت يبثون محاضرات أبناء الحوثي وخطاباتهم ، كلام لا يطيقه أحد ، لو لم يكن كذلك ما صار سلعة رخيصة يبثونها في الطرقات ، يبثون أيضاً زوامل وأناشيد تشجع الناس على الذهاب الى الحرب ، لم تكفهم عشرات الأذاعات على ما يبدو ، هذه المكبرات دليل فشلهم الفكري بعد سنوات وسنوات من المكر والخداع..
في ذات الوقت تمر سيارة خضراء فاقع سائقها تحمل مكبرات صوت أخرى تبث أيضاً المحاضرات والأناشيد والزوامل ، في كل مكان ، في كل النواحي ، لا تستطيع ان تفر منهم ، فاشلون يتناقضون مع انفسهم ، ضجيج لا يطاق وجدران ملطخة بشعاراتهم وعباراتهم وتفاصيل خداعهم ، جدران المدينة شاهدة عليهم ، أزالوا منها كل رسومات الشباب الهواة ، اللوحات الملونة بالحب والسلام والوطن وكتبوا على اطلالها عبارات الموت والقتل والدمار..
ما هذا !!
ما هذه اللعنة التي تحكمنا ؟!
هل هذا مصيرنا النهائي ؟!
لا أظن ذلك..
هذه السلطة التي تحكم المدينة لا تصنع لشعبها شيئاً عدا بث الزوامل والمحاضرات ومحو السلام من الشوارع وخصخصة الأموال والثروات !!
هذا ما يحدث حينما تحكمك العصابات !!
سيل العرم في النهاية لن يتركهم.
في الأثناء تتوقف سيارة بيضاء “لقزز” معكسة ومدرعة تحمل شعاراتهم وملصقاتهم وبقايا أشكال الموتى ، ينزل منها أربعة مسلحين كأنما هم مفخخين من شدة التسليح والتمترس ، يرتدون جواكت عسكرية مهيبة وعلى رؤوسهم سنوات من الشعر الكثيف يغطي ملامحهم وجوههم وفي أفواههم عشرات الالاف من القات والتبغ المبودر ، لم يغلقوا أبواب سيارتهم بينما يدخلون أحد المحلات التجارية ، يصاب الجميع في الشارع بالذهول ، لحظة صمت عارمة ونظرات شاخصة تكتسح المكان ، يقول أحد المذهولين بجواري: لقد حسم الأمر ، لقد وصل زبانية الجحيم يجمعون الزكاة والضرائب والتبرعات ، هذه البلطجة في قلب المدينة صارت تصرفات روتينية لكنها تظل صادمة في تماديها..
هذا الموقف “الإمامِي المتبلطج” يستحق وبجدارة سيجارة أضافية للتفكير ، لم أكلف نفسي عناء البقاء لمعرفة النهاية والتفاصيل ، كل شيء واضح وجليً من العنوان..
هذا ما يحدث كل يوم حينما تحكمك العصابات !!
أعود في طريقي وأصادف قلاب كبير وجديد يجمع القمامة وفي مقدمته شعار برنامج الأمم المتحدة الإنمائي “UNDP” ، موقف يثير الكثير من الضحك والحسرة ، الأمم المتحدة تجمع القمامة من شوارعنا !! وهؤلاء الحوثيون مشغولون بزراعة الإلغام وجمع الضرائب !!
أسير قليلاً وأقابل وايتات الماء الزرقاء حاملة شعار “اليونيسف” التابع للامم المتحدة ، يشتري العالم الماء من الحوثيين ويوزعونه للحارات والتجمعات والمستشفيات ، لا يدري الواحد منا ما يصنع تجاه ما يحدث لنا !! هل يبكي أم يضحك أم يهذي من سلطة جعلت من معظم شعبها شحاتين وجائعين والبقية دفنتهم في مقابرها الممذهبة..؟!
هكذا تنص اللعنة حين تحكم العصابات..
أكمل طريقي وفيه أتفقد سجائري كم تبقى منها..
أرجوكي يا سجائري لا تخونيني في منتصف الطريق !!
أرجوكي لا تكوني مثلهم !!
يسير بجواري الكثير ممن لا يملكون قيمة المواصلات ، تعود الناس على هذا الأمر وتاقلموا عليه كثيراً..
وفي ذروة المشي ترمق عيناي منارات مسجد الصالح بعد الغروب ، كأنها ترثي حالها وسط الظلام ، الله كيف أصبح هذا المكان بائساً !! ذهبت الأضواء وغادر المعجبون وبقي المكان مظلماً ، خاوياً ، مخيفاً ، ممذهباً ، لا يقترب منه سوى المنتصرون عليه ، كأنهم ينتقمون من المكان حقاً ، يرتفع الأذان في المنارات بعد صلوات وتسابيح وتحاميد يتمنى المؤذن فيها الخير والثواب لأل بيت رسول الله المقدسين ، يرفع صوته بالأذان ، لا يجيبه أحد ولا يدخله أحد ، ربما لم يعد المسجد للصلاة بقدر ما هو منارات للتباهي بنصرهم القديم على حليفهم الزعيم..
يصل بي الطريق الى مفترق من التعب بين الشمال والجنوب ، أقرر أن لا أعود ، مازال في الوقت الكثير من الفراغ ، أعود للجلوس مجددا في رصيف يغشاه الظلام ، ومن أمامي يمر الكثير من اللاجئين الأفارقة وعلى ظهورهم متاع سفرهم الرث محمولاً بعصا مسافري الصحراء القداما ، هؤلاء بعضاً من الواصلين الجدد ، دخل الكثير منهم في الفترات الأخيرة بحسب منظمات اللاجئين ، يقول الناس هنا أن سلطة الجماعة تتقاضى منهم وعنهم الكثير من الأموال والاّ ما كانت لتسمح بوصولهم المجاني..
أرفع رأسي قليلاً .. قليلاً فقط ، لتقع عيني على عمارتين ضخمتين متجاورتين ومتنافستين ، عمارتين كأنهما يشرحان لي وضع المدينة السياسي بين الماضي والحاضر ، هذا المنظر الحقير يستحق أيضاً سيجارة أضافية للتفكير .. إحدى هاتين العمارتين بناها رشاد العليمي إبان حقبة حكم علي عبدالله صالح ، في تلك الفترة كانت العمارة أفخم وأرفع وأغلى ما يمكننا مشاهدتة في هذا الشارع ، عمارة مرصعة بالزجاج والتفاصيل المهولة ، كنا حينها نتحدث عن فساد رجال سلطة صالح وكيف أنهم ينهبون الشعب ، لم نكن نعلم ما سيحدث في الزمن اللاحق ، زمن الحرب والحصار والجوع والفقر والموت والمرض ، زمن جماعة الحوثيين الحصري والأبدي ، أتأمل من مكاني العمارة الأخرى وقد تجاوزت بإرتفاعها وعرضها وفخامتها عمارة سلطة الفساد القديم ، هذه العمارة بُنيت خلال العام الماضي فقط ، كأنما نزلت من السماء في ساعة السحر على أحد الأولياء الطاهرين ، عمارة الفساد الحوثي أكبر بكثير وأغلى بكثير وأفخم بكثير وأرفع بكثير وأعرض بكثير من عمارة الفساد القديم ، وبلا شك هناك فرق أخلاقي بين فساد الزمن السياسي المستقر وزمن الحرب والحصار وإنقطاع المرتبات..
هذا ما يحدث حينما تحكمك العصابات !!
هل أكمل طريقي ؟!
نعم سأفعل ..
أعود للمشي ، أسير في شوارع لا يضيء فيها سوى محلات الصرافين ومحطات بيع البترول والديزل ، محلات الدولارات المرتفعة والبترول المعدوم ، بين كل عشرة محلات ستجد محلاً جديداً للصرافة ومحطة جديدة تبيع البترول المعدوم ، هذه المحلات ظهرت في زمن الحوثي ، زمن الحصار والفقر والجوع والموت المجاني..
أنعطف يساراً لشراء نصف باكت سيجارة ، يسألني صاحب الدكان أي سيجارة تريد ، شملان ام كمران ام مانشستر ام ماك ام كمران أو هذه الحمراء او تلك السوداء أو هذه او تلك ، وأذا ما كنت اريد سيجارة رسمية أم غير ذلك ، ضحكت وقلت أريد “حشيش” أبتسم وقال بكم تريد وأي نوع وتركيز تريد ، كل شيء متوفر ، كل شيء يجلب المال يقومون بتوفيره ، أنت في زمن العصابات يا صديقي ، هذه السجائر الغريبة والجديدة والرخيصة حكايتها تشبه تماماً حكاية الأدوية الجديدة والغريبة والرخيصة المنتشرة بشتى الصيدليات والمستشفيات ، هي سلع ومنتجات يجلبها تجار الحوثي بلا ضرائب او معايير جودة ويبيعونها في أسواقنا الفقيرة ، الأسواق الباحثة عن الرخيص ، يشترونها بأسعار رخيصة وبدون أدنى معايير للنقل والتخزين ويبيعونها لشعبهم ، هذه البضائع والمنتجات تكون مرفوضة حتى في أفريقيا وفي أسواقنا تباع كالنار من سرعتها وسهولتها..
هذه طريقتهم في الحكم ليس الاّ ، بل هي معرفتهم القاصرة لطريقة الثروة الأسرع ، حياة الناس ومصائرهم وصحتهم صارت سلعة في سلطتهم ، لا شيء أكثر.
او هذا ما يحدث حينما تحكمك العصابات !!
أشتري نصف باكت بمائة ريال وانصرف..
عند التاسعة مساءا أصل مستشفى الثورة العام بباب اليمن ، أكبر مستشفيات الوطن ، الوطن الذي تحكمه العصابات بكل أجزاءه ، أصل الى قسم الغسيل الكلوي كي أرافق مريض يريد الغسيل ، هكذا دائماً يصل مريض الغسيل الكلوي وينتظر عشر ساعات أو أكثر ليتمكن من الوصول للكرسي ، مستشفى الثورة تحول الى وكر وحانة إبتزاز للناس المرضى والضعفاء..
تخيلوا معي لبرهة..
شخص مريض في أسوأ حالاته الحرجة يخضعونه للإبتزاز كي يعطيهم الف ريال أو الفين ، أذا ما أراد المريض الاولوية في الغسيل فعليه أن يدفع للمرضين السفله والأطباء الفاشلين في الدراسة ، معظم المرضى هنا يأتون من أماكن بعيدة ويمكثون عند أبواب المركز ساعات وساعات طويلة لينقذوا حياتهم ليس الاّ ، مع الأيام تجادلنا كثيرا لكنهم مجرد ممرضين يملؤهم الحقد والإنتقام ، كأن هؤلاء المرضى العاجزين هم من أوقف الرواتب ، كأنهم هم الحرب والحصار اللذين عصفا بالبلد ، الكثير من الممرضين والأطباء المحترمين غادروا المركز وجاء بدلاً عنهم بضعة أشخاص فاشلين يتعلمون وينتقمون من الناس ، الشرفاء لا يبقون في الاوكار والحانات اللعينة ، هؤلاء الممرضين العاهات يريدون جمع ما أمكنهم عبر إبتزاز المرضى ، يتمنى المرضى هنا أن يموتوا ، الموت بصمت ، كرامة المرضى مستباحة بفعل من يشغلون مركزا لغسيل الكلى في مستشفى الثورة العام بصنعاء ، لم يعد في العمر متسع للصبر على هؤلاء الحثالات ، هؤلاء المنتقمين والحاقدين والحثالات يرفضون تسليم هذا المركز للمنظمات الدولية لإدارته تماماً كبقية المراكز الأخرى ، يرفضون لسبب وحيد ، لأنهم يتاجرون بالمرضى ويلزمونهم الدفع مقابل الغسيل وشراء المغذيات التي لا يستخدمونها على الإطلاق ، هم يمارسون الإتاوات عنوة عندما يطلبون شراء أدوية ومستلزمات موجوده لديهم مسبقاً..
بعد أثنى عشر ساعه تمكن مريضي من الوصول الى كرسي الغسيل الكلوي ، حينها طلب مني الممرض شراء مغذية لغسل الجهاز ، طلب مني مغذية ملح وعشرات كراتين مغذيات الملح مكدسة لديهم لكنه أسلوبهم ، لن أجادل حتى لا يطردون مريضي بالقوة، غادرت لشراء المغذية من صيدلية طوارئ المستشفى ، أخبرني الصيدلي هناك أنها بـ خمسمائة ريال ، رفضت الدفع وفضلت الخروج لشراؤها من خارج المستشفى ، دخلت أول صيدلية مقابلة للمستشفى ، طلبت المغذية وسالني عن الغرض منها ، اخبرته أنها لمريض فشل كلوي ، أعطاها وقال هي مجانا لمرضى الفشل الكلوي ، صدمة عظيمة حقاً ، صيدلية المستشفى الحكومي ، مستشفى الشعب لو صحت العبارة ، يبيعون لشعبهم الأدوية والمستلزمات بارباح مضاعفة وصيدلية مواطن عادي يوزعها مجاناً ، أي حال وأي مصير أصبحناه يا الله !!
هذا ما يحدث حقاً حينما تحكمك العصابات !!
غادرنا المستشفى في الثانية عشر ظهرا من اليوم التالي ، ثلاثة عشر ساعة قضيناها هناك ، وصلنا في التاسعة مساءا وغادرنا ظهيرة اليوم التالي !! من أجل ماذا ؟! من أجل أن ينقذ المريض حياته ، هكذا سيعيد الأمر بعد يومين ، هؤلاء المرضى المساكين يقضون حياتهم بأكملها عائدين ومغادرين بمعية ممرضين يخضعونهم للإنتظار والإبتزاز وشراء المغذيات..
لعنة الشعب أعظم وامر ايها الاوغاد..
بعد مغادرتي لمستشفى الثورة مررت بجوار مدرسة الشعب في الشارع المقابل ، وعند أبوابها رأيت المئات من الرجال والنساء والأطفال يفترشون الرصيف والطريق والاماكن المجاورة كالمشردين تماماً..
ما الأمر ؟! سألت أحدهم..
قال هم ينتظرون صرف الدقيق والسكر والرز والزيت والفاصولياء من الأمم المتحدة ، لكنهم لم يستلموا حصصهم منذ شهرين ، برنامج الغذاء العالمي WFP أوقف التوزيع في صنعاء لأن الحوثيين يأخذون السلال الغذائية ويوزعونها على مناصريهم ومؤيديهم وأعضاءهم ، برنامج الغذاء العالمي لديه كشوفات جديدة يرفضها الحوثيون ، والحوثيون لديهم كشوفات قديمة يرفضها البرنامج ، والناس بينهما ينتظرونهم في الشوارع وعند الأبواب كالمشردين ، هذا ما يحدث حين تحكمك العصابات وهو ما يحدث حينما يخرج الناس من بيوتهم جائعين ويفترشون الشوارع.
هكذا يحدث في تفاصيل اللعنة ، يصير الشعب شحاتاً والأوغاد أبطالاً ، عندما تحكم العصابات لا تفكر بشيء سوى أن تبقى على قيد الحياة ، هذا المصير لا يستحقنا ونحن لا نستحقه..
أحياناً أخرى أفكر بطريقة أخرى ، ماذا لو كان “كنيدي” صادقاً عندما قال: كل مجتمع يحصل على نوع المجرمين الذين يستحقهم.
لكني وفي كل مره أعود للتفكير بماهيّة القول النقيض حينما أجاب على “كيندي” قائلاً :
وكل مجتمع يحصل على القانون الذي يصر عليه.
صدقوني..
لن نتوقف عند مجرد حالنا اللعين ولعنتهم الحقيرة ، سنصر ونصر ونصر على إبعادهم حتى نموت أو يرحلون..
يتبع…
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.